نضع بين يدي المهتمّين بالكتاب؛ مختصر القلوب المقفلة، لتوضيع أهمّ المحاور والتساؤلات الّتي وردت في البحث:
تمّ إجراء دراسة مسحية لعينة من أطفال التوحّد، في الفترة الممتدّة ما بين 01/01/2017م و31/12/2017م. الدراسة مسّت 44 طفلاً، وكان الهدف منها تطبيقيّ من أجل التعرّف على أهمّ الأعراض الّتي تظهر على الطفل التوحّديّ، ومعرفة ما إذا كانت هناك حقّاً علاقة بين التلفاز والمرض، وأيضاً التعرّف على علاقات ارتباطيّة أخرى، فمن خلال المقابلة والملاحظة الميدانيّة، تبيّن للباحث أنّ الاختلاف الّذي يميّز التوحّديّ عن السويّ هو الفهم، ولا تختلف قصصهم عن قصص كثيرة واقعيّة، عن أطفال عاشوا وكبروا مع الحيوانات؛ أبقار، ذئاب، دببة، أغنام، أطفال عاشوا وحدهم في الأدغال، انتهوا جميعهم معلّقين ما بين الإنسان والحيوان، جميع حالات الدراسة أدمنت التلفاز، حالة أدمنته ولم يظهر عليها أيّ عرض، وحالة أخرى تحسّنت واختفت منها كثير من الأعراض بعد أن سحبت منها كلّ الشاشات، فما حقيقة العلاقة بين التلفاز أو الشاشات ومرض التوحّد؟ وما علاقة ذلك باكتساب الطفل لملكة الفهم؟.
بغضّ النظر عن أعراض هذا المرض المشتركة والمتفاوتة بين الأطفال الّذين قابلتهم، فإنّ إدمانهم على التلفاز تمّت الإشارة إليه في كلّ الحالات، باحثون أمريكيّون في العلوم الاقتصاديّة؛ مايكل والدمان، شون نيكلسون وندير أديلوف، في دراسة بعنوان: “هل التلفاز يسبّب التوحّد؟”، أشاروا إلى أنّ مشاهدة التلفاز في مرحلة الطفولة المبكّرة بسبب هطول الأمطار على بعض الولايات الأمريكيّة كانت سبب مهمّ للتوحّد، وفي نفس السياق كتب الباحث مريوس تيودور زمفير، منسّق إحدى المؤسّسات الراعية لأطفال التوحّد برومانيا، وتحدّثت الأخصائيّة الفرنسيّة في أمراض الطفل أنّ ليز دوكاندا، ولكن كان هناك تساؤل منطقيّ يفرض نفسه بقوّة عند كلّ نقاش: عندما اكتشف التوحّد في الولايات المتّحدة لأوّل مرّة لم يكن هناك تلفاز بعد؟؟. فتقرير ليو كانر، الّذي نشر سنة 1943م، بعنوان: “الاضطرابات التوحّديّة للتواصل العاطفيّ”، لم يشر فيها ولو مرّة واحدة إلى التلفاز ولكن كانت هناك مفاجأة؛ حيث تمّت الإشارة في تقريره إلى إدمان الأطفال على جهاز آخر يدعى الحاكي أو الفونوغراف.
كنت في فترة ماضية أبحث في موضوع تاريخ التوحّد، فأثار انتباهي ما كتب عن وحش أفيرون كما سمّاه الطبيب إيتارد الّذي أشرف على تربيته وتأهيله. الجدول العيّاديّ لفيكتور بين يدي أيّ مختصّ لا محالة هو نفسه الجدول العيادي للتوحّد، وهو ما أشار إليه الطبيب الفرنسيّ جاك هوكمان في كتابه تاريخ التوحّد، والباحثة الأمريكيّة آنا ماريّا رودريغيز في كتابها اضطراب طيف التوحّد. قصّة الطفلة البرّيّة جينيّ، قد تكون قصّة مماثلة لحالة الفتى فيكتور، جيني قضت معظم ساعات النهار والليل مقيّدة في غرفة صغيرة مغلقة على كرسيّ صغير للأطفال، بمنزلها بجولدن ويست أفينيو، تيمبل سيتي، كاليفورنيا، جاء في تقرير للباحثين فيكتوريا فرومكين، ستيفين كرشن، سوزان كورتيس، دفيد ريجلر، مارلين ريجلر، بأنّه لم يكن هناك أيّ دليل على تخلّفها البدنيّ والعقليّ وأنّها كانت مصابة بالتوحّد. بذلك، نحن أمام حالة توحّد أصليّة وأصيلة، نموذجيّة، مرجعيّة، ونظيفة من أيّ عامل دخيل كالتلفاز أو الحاكي ومشتقّاتهما.
بعد دخوله في المجتمع، فيكتور لم يحسّ في البداية بتلك الرعاية المقدّمة له، لفترة طويلة لم يعر اهتماماً للشخص الّذي كان يعامله، كان يقترب من الشخص عندما تجبره الحاجة، ويبتعد عندما يقضيها، ولا يرى في ذلك إلّا اليد الّتي تطعمه، بنفس برودة الحسّ عند خروج وحشنا من الغابة، تمّ تغيير الأشخاص الّذين أوكلت إليهم مهمّة رعايته عدّة مرّات، وبعد أن تمّ استقباله، رعايته وتوجيهه إلى باريس من طرف فلّاح فقير والّذي كان قد منحه كلّ معاني حنان الأبوّة، عاش منفصلاً عنه دون أن يظهر أهمّيّة لذلك، بدون ألم أو أسف. أطفال ليو كانر كانوا كذلك غير مبالين بالأشخاص، وحتّى والديهم بالخصوص، اشتركوا جميعهم بعدم الوعي بما يدور حولهم، مكتفّين بذواتهم ومنسحبين في عالمهم الخاصّ، لا يلعبون مع الأطفال، غير منتبهين لدخول وخروج والديهم، وحضور أقاربهم في البيت، وإن حدث تواصل فهو من أجل أن يخدموا، ودون النظر إلى عين من يحدّثهم، حدث ذلك لدرجة الاعتقاد بإصابة الأطفال بالصمم، الطفلة البرّيّة جينيّيّ وصفت في أحد التقارير بأنّها كانت شاحبة، رقيقة تشبه الشبح، لا مبالية، كتومة وغير مستجيبة اجتماعيّاً.
تحدّث الطبيب إيتارد عن فيكتور؛ عندما تطرد قسوة الطبيعة الجميع من الحديقة، ينزل، يطوف عدّة مرّات ثمّ ينتهي بالجلوس على حافّة الحوض يرمي من وقت لآخر بعض الورق اليابس. كان لديه ذوق واضح لترتيب الأشياء؛ يحدث لدرجة نهوضه من سريره حتّى يعيد قطعة أثاث في مكانها المعتاد، أو أيّ آنية غير مرتّبة. كما يبدي هذا الذوق أيضاً للأشياء المعلّقة على الجدار، كان لكلّ واحدة مسمار وخطّاف خاصّ بها، وعندما يكون هناك تغيير في وضعيّاتها لا يهدأ له بال حتّى يقوم بتعديلها. تمّت الإشارة في حالات ليو كانر، إلى تمسّك الأطفال بطريقة استحواذيّة بأشيائهم وعاداتهم؛ اهتمام بالصور، تدوير كلّ ما يقع بين أيديهم خاصّة الأشكال الدائريّة، ترتيب الكريّات، العيدان والمكعّبات إلى مجموعات من سلاسل ألوان مختلفة، تكرار منجز بنفس الطريقة الّتي بدأت بها، الخربشة على الكتب والصور، التسلّق، قصّ الأوراق، إشعال وإطفاء الأضواء، فتح وغلق الأبواب، وعادات تكراريّة أخرى اختلفت من طفل لآخر كهزّ الرأس ومصّ الأصابع، وتمسك بالنمط اليوميّ، فإذا اعتاد على نوافذ الغرفة مغلقة فيجب أن تبقى كذلك، وإذا كانت الأشياء مرتّبة بشكل معيّن فلا يجب أن تطالها يد التغيير، وأيّ محاولة لولوج هذا العالم أو تبديله ينجرّ عنه غضب حادّ، وتدميريّ في بعض الأحيان. الطفلة البرّيّة جينيّ، اشترت 23 دلواً من اللدائن بألوان مختلفة، أيّ شيء من اللدائن مرغوب فيه، يعتقد أنّ ذلك له علاقة بفترة الحجز حين كان يسمح لها فقط باللعب بمعطفين واقيين للمطر مصنوعين من اللدائن.
المواطن بينل وصف الحالة العامّة لفيكتور بالبله، ولكنّه دقّق في الوصف عندما قال إنّ فيكتور، طفل محدود حتّى في الأفكار الّتي تتعلّق بحاجاته الخاصّة، كلّ وجوده عبارة عن حياة حيوانيّة بحتة، وصفه أيضاً الطبيب إيتارد بالمجرّد من عمليّات التفكير، ولا شيء كان أصعب من أن يجعله يفكّر، في جميع الدروس كان يقف عند المعنى الحرفيّ، وكلّ كتاب غير ذاك الموجود في غرفته هو ليس بكتاب، وحتّى يصبح بإمكانه أن يعطيه نفس الاسم يجب أن يكون هناك تشابه تامّ بين الأوّل والثاني، ورغم العرض المطوّل للشيء مع اسمه لم يستطع أن يربط بين الاسم والشيء؛ وهو نفس الشيء الذي كان عليه أطفال ليو كانر، ولأنّهم أغلبهم كانوا ناطقين، كانوا يعبرون بالمصادّة، وعكس الضمائر والكلام التكراريّ، تحدّث ليو كانر أنّ امتياز منظومة الحفظ عندهم عن ظهر قلب المرتبط مع عدم قدرتهم على توظيف اللغة، قاد أولياءهم إلى حشوهم بالقصائد، بمصطلحات حيوانيّة ونباتيّة، بعناوين قطع موسيقيّة، أسماء ملحّنين على أسطوانات، وأشياء أخرى شبيهة. أيضاً اللّغة – الّتي اكتسبت ليس من أجل التواصل- كانت منذ البداية موجّهة بكثرة لتكون وسيلة حفظ مستقلّة بدون أيّ قيمة دلاليّة أو حواريّة، والّتي تحوي تشوّهات كثيرة. كلّ هذا لم يكن له أيّ معنى بالنسبة لطفل في سنّ عامين أو 3 سنوات، وهي بالنسبة للبالغين مجرّد مقاطع دون معنى. أشار جيف رولز، واصفاً حالة جيني؛ بأنّها كانت أكثر الأطفال الّذين شاهدتهم تضرّراً على الإطلاق، كانت حياة جيني بمثابة أرض بوار بسبب افتقارها للكلام، كان من الصعب للغاية تقييم فكرها، بدت قادرة على التعبير عن عدد قليل من المشاعر؛ كالخوف، الغضب، الدهشة، والضحك. ومع ذلك، كان تكتّم غضبها، تخدش وجهها، تتبوّل، ولا تصدر صوتاً أبداً.
أشار إيتارد إلى أنّ الصداقة الّتي يبديها له فيكتور ضعيفة بشكل كبير، ويجب أن تكون كذلك، ومن المحتمل أن تكون الرعاية الّتي تمنحها له مربّيته تلقى التقدير من قبله على الفور، وتلك الّتي يمنحها له لا تحوي على أيّ فائدة حسّيّة، هذا الاختلاف يؤول إلى الملاحظة الّتي أشير إليها: هو أنّ لي ساعات محدّدة حتّى استقبله فيها جيّداً: هي تلك الّتي لم أستخدمها قطّ في تربيته، ورغم ذلك جرّب الطبيب توظيف العاطفة ووقف على مدى نجاعتها لاحظ إيتارد أيضاً أنّه في أوج مشاعر الحزن أين يرتفع ضجيج صدره وتتدفّق دموعه من جفنيه، إذا تنازل عن لغة اللوم، ليعوّضها بلمسة حنان وكلمات صداقة وتشجيع فإنّه يتحصّل على الكثير من العاطفة، ويضاعف من الأثر الّذي كان يتوقّعه ممّا يسمح من تطوير ذكائه ويجعله يتغلّب على الصعوبات أكثر. رحلة تأهيليّة، ورعاية مادّيّة وعاطفيّة حملت معها الكثير من الإيجابيّات، من خلال كلّ ما تمّ الاشتغال عليه من تطوير للوظائف الحسّيّة والفكريّة وكذا الكلّيّات العاطفيّة، يقول الطبيب إيتارد أنّ فيكتور مقارنة بمراهق في نفس عمره، لم يكن إلّا مجرّد كائن ممسوخ، حثالة طبيعيّة مثلما هو حثالة اجتماعيّة، ولكن إذا حصرنا المقارنة في الحالة الراهنة والحالة السابقة، ستبهرنا شساعة المسافة الّتي بينهما، فبعد سنوات من كتابة تقريره 1971م، تمكّن ليو كانر من الوقوف على ما آلت إليه حالات بعض من الأطفال الـ 11، ففي سنة 1942م، تمّ وضع الدون في مزرعة حيث مكث ثلاث سنوات، أين حظي بمعاملة جيّدة فيما بعد، تحصّل على شهادته الجامعيّة سنة 1985م، واشتغل كأمين صندوق في بنك محلّيّ، ريتشارد وبعد تغيير لعائلتين حاضنتين، تمّ وضعه في المدرسة الحكوميّة للأطفال الاستثنائيّين في ولايته، قبّلته استثناء بالنظر إلى مشكّل الرعاية، ثمّ تمّ تحويله إلى مؤسّسة أخرى في نفس الولاية، المدير الطبّيّ كتب في تقريره أنّه وبعد قبوله، المهدّئات الّتي كان يستهلكها اقتربت من الجرعة السامّة. جيني البرّيّة، بعد أن انتقلت للإقامة مع ديفيد ريجلر الأستاذ وكبير علماء النفس في قسم الطبّ النفسيّ بالمستشفى، بقيت معه لمدّة أربع سنوات، حيث أظهرت روح الدعابة، وتعلّمت الكيّ والخياطة، كما استمتعت بالرسم الّذي سمح لها أحياناً بتصوير أفكارها عندما فشلت لغتها، بعد أربع سنوات، أوكلت جيني إلى عائلة راعية، والأمر وصف بالكارثي، حين زارها جاي شيرلي في عيد ميلادها 27 و29، أشار في تقريره أنّها تراجعت للغاية، لا تتواصل بالعين، لم تتكلّم كثيراً وبدت مكتئبة ومنعزلة. بما لا يدعو للشكّ من خلال ما سبق من قصص الأطفال، أنّ المعاملة الجيّدة من صنعت الفارق بينهم، وهي من جعلتهم يستوعبون بشكل أفضل ويتميّزون في حياتهم.
كتب الطبيب إيتارد: “أنّ الوحش المزعوم لم يكن إلّا مجرّد مغفّل مسكين، من والدين قد ملّا منه، قد تركاه في وقت ليس بالبعيد في مدخل الغابة”، ورغم التباين الّذي قد نلاحظه من أسرة لأخرى إلّا أنّ ليو كانر حدّد ما كان مشتركاً بينها حين كتب أنّ هناك شيئاً منطقيّاً بصفة ملحوظة في كلّ المجموعة، لم يكن الآباء والأمّهات حقيقة ودودين مع أبنائهم؛ في أغلب الحالات، الأجداد، والأولياء والأقارب كانوا منشغلين كثيراً بأشياء تجريديّة، ذات طبيعة علميّة، أدبيّة أو فنّيّة، ومحدودة في الفائدة الأصيلة الّتي تمنحها للناس. في حالة جيني، وبعد التحقيق وضعت في دار لرعاية الأطفال بكاليفورنيا، وتمّ متابعة والديها بتهمة المعاملة السيّئة لقاصر، في المحكمة والدتها اعترفت أنّها كانت مقهورة تحت سيطرة مسيء وغير قادرة على فعل أيّ شيء، تمّ قبول اعترافها، ووافقت على وضع ابنتها لدى رعاية مؤسّسة عموميّة، وفي سنة 1949م، كتب ليو كانر تقريراً آخر لاحظ من خلاله أنّ الآباء نادراً ما يلعبون مع أطفالهم، وأنّ الأطفال قد تعرّضوا منذ البداية للبرودة الوالديّة، ونوع من الانتباه الميكانيكيّ للاحتياجات المادّيّة فقط، كانوا جميعاً موضوعاً للملاحظة والتجربة مع التركيز على الأداء المجزّأ بدلاً من الاستمتاع والدفء الحقيقيّ، أطفالاً تمّ حفظهم في ثلّاجات لم تذب، في سنة 1960م، أشار ليو كانر صراحة إلى أنّ البرودة العاطفيّة للوالدين كسبب مباشر للتوحّد، ممّا أسّس فيما بعد لنظريّة “الأمّ الثلّاجة” أو “الأمّ الباردة” والّتي تبنّاها عدد مهمّ من الباحثين فيما بعد، والّتي لاقت الكثير من المعارضة خاصّة من قبل جمعيّات أولياء أطفال التوحّد. يرى بيتر بريغن (1991م)، أنّ النظريّة النفسيّة المفسّرة لمرض التوحّد، تمّ التخلّي عنها بسبب الضغوط السياسيّة لمنظّمات أولياء الأطفال التوحّديّين وليس لأسباب علميّة. العلاقة بين سلوك الأمّ ومرض التوحّد لا جدال فيه، وإقناع الأمّهات بفخّ البرودة العاطفيّة يستوجب الكثير من الشرح.
تجربة في الصميم قام بها ريني سبيتز، والّتي ضمنها في بحث بعنوان “فقدان الأمّ من قبل الرضيع”؛ تمّ إجراء الدراسة في مؤسّسة حضانة تحوي مجموعة من الرضّع الّذين تمّ فصلهم عن أمّهاتهم، في الشهر الرابع من الانفصال بدأ مستوى التطوّر في التراجع إلى ما دون الّذي تمّ الوصول إليه أثناء الانفصال. دراسات أخرى تطرّقت لنفس موضوع دراسة سبيتز، كتلك الّتي قام بها الباحثان هينيكي ووستهايمر، حيث توصّلا إلى أنّ المحنة النفسيّة المترتّبة على الانفصال تزداد بزيادة مدّة استمراره، دراسات أخرى أكّدت أنّه كلّما طال استمرار الحرمان البيئيّ وقصور التنبيهات، تزداد معه أشكال العجز النفسيّ، كما وجدت دراسة لاحقة أنّ أصوات المناغاة الصادرة عن الرضّع في الشهر الثالث من العمر يمكن أن تزداد بزيادة كم الابتسام واللمس والكلام معهم من قبل شخص بالغ، ورغم أنّ الخدمة المتاحة للأطفال في مؤسّسات الرعاية جيّدة، غير أنّها لا ترقّ في كمّها ونوعها لتلك المقدّمة في إطار الأسرة؛ يتّفق مع هذا الرأي جون بولبي من خلال نظريّة وحدويّة الميل أو وحدويّة العلاقة، حيث يشير إلى أنّ الانفصال بعد رابطة التعلّق قد يؤدّي إلى المحنة النفسيّة والانفعاليّة حتّى بالرغم من توافر رعاية أموميّة جيّدة المستوى وعدم وجود أيّة ظروف ضاغطة أخرى في البيئة. الصورة واضحة جدّاً، كلّما تعاملنا مع الطفل التوحّديّ بعاطفة كلّما نما وأزهر، وكلّما منعنا عنه هذه العاطفة تراجع وانكسر، كما حدث مع دونالد وفردريك اللّذان تطوّرا بصفة ملحوظة وحظيا برعاية مادّيّة وعاطفيّة جيّدة، وذاك التدهور المبكي الّذي آل إليه بقيّة الأطفال في المستشفيات ودور المتخلّفين ذهنيّاً، ظاهر كذلك على حالة جيني، كيف كانت حالتها وهي في بيتها وبين والديها أسيرة مكسورة الجناح، وكيف أزهرت وتغيّرت وهي في بيت ريجلر، وكيف ذبلت وانتكست عندما غادرت ذلك البيت الدافئ إلى دور المتخلّفين ذهنيّاً؛ فعدم تمكّنهم من التعبير عن العاطفة وكذا عجزهم عن فهمها، يشير إلى أنّ الأمر يتطلّب أن يكتسبوها أوّلاً في فترة مبكّرة من نموّهم؛ العاطفة، الّتي كنّا نعتقد أنّها ضروريّة حتّى يشعر الرضيع بالاطمئنان والأمان، هي في الحقيقة أخطر من ذلك، إذ يتعلّق الأمر باكتساب الطفل لجهازه النفسيّ وبالتالي نموّه السويّ.
من أهمّ الأعراض المبكّرة للتوحّد، تلك الّتي وردت في دارسة سبيتز والّتي ظهرت على الرضّع بعد فصلهم عن أمّهاتهم، ويتعلّق الأمر باضطرابات التغذية، ورفض أيّ محاولة تواصل مع جمود في الإيماءات، فاضطرابات التغذية تستمرّ مع النموّ، وتظهر في شكل تغذية انتقائيّة أمّا الكفّ عن التواصل الّذي تمّت الإشارة إليه في تجربة سبيتز، تمّت الإشارة إليه في تقرير ليو كانر من خلال تلك الإشارة إلى عدم اتّخاذ الطفل لأيّ موقف استباقيّ عندما تريد الأمّ حمله. الانتباه إلى هذه الأعراض مبكّراً، يسمح بالتدخّل في الوقت المناسب من أجل إعادة الرضيع إلى سكّته الصحيحة، حيث تدور فكرة علاج التوحّد على “العلاج بالعاطفة” وربط علاقة جيّدة بالطفل قبل كلّ شيء، ومنحه وقتاً أكثر للّعب، وتعليمه الكثير من المهارات الاجتماعيّة.
تؤدّي الاستجابة الفوريّة لتوتّر الطفل وكذا تنبيهات الأمّ إلى اكتساب العاطفة الّتي تؤدّي إلى تكوين رابطة التعلّق بين الأمّ والرضيع، والّتي تعتبر بوّابة النموّ السويّ للجهاز النفسيّ للرضيع، ما يظهر على الأطفال التوحّديّين، من اكتفاء بالذات؛ من خلال تلك العلاقة المتينة الّتي تربطهم بالأشياء، وعزوفهم عن أيّ علاقة مع الأشخاص، وكذا عجزهم الفكريّ، تجعلنا ننظر إلى أنّ نموّ الجهاز النفسيّ للطفل يمرّ عبر دورة تبدأ بعالم الأشياء، ثمّ عالم الأشخاص، ثمّ أخيراً عالم الأفكار. عند الطفل السويّ المعلومة تعالج عاطفيّاً قبل أن تحفظ في الذاكرة، بينما عند أطفال التوحّد، تحفظ المعلومة مباشرة كما تحفظ الملفّات على أسطوانات مضغوطة أو أسطوانات خارجيّة، وبذلك فإنّ العمليّة برمّتها هي مجرّد عمليّة كتابة/قراءة، وهذا واضح جدّاً عند الأطفال مدمني الصوت الإلكترونيّ، أمّا عند الأطفال الّذين عاشوا عزلة انفراديّة وتجاهلاً عاطفيّاً تامّاً، فجميعهم يعانون من الخرس رغم سلامة السمع والبصر وجهاز النطق، فهم أطفال باختصار بذاكرة فارغة؛ لذا ففي عالم الأشياء يتمّ اكتساب الكلام في أوّل مرحلة، ثمّ في عالم الأشخاص يتمّ تعلّم القواعد في ثاني مرحلة، ثمّ في ثالث مرحلة إنتاج الأفكار اللفظيّة والغير لفظيّة في عالم الأفكار. تتطلّب العمليّة التأهيليّة أوّلاً وقبل كلّ شيء تحقيق التعلّق ثمّ التخطيط للتمارين والمهارات وفقاً لطريقة استيعابه الّتي تعتمد على استنباط النمط، أمّا بالنسبة لصعوبات التعلّم الّتي نواجهها عند تعليم طفل توحّديّ، لا توجد بتاتاً على مستوى الطفل، بل على مستوى محتوى وطرق التدريس، كتب الطبيب إيتارد في تقريره: “نظرت بشجاعة، أنّه إذا لم يفهمني تلميذي فهذا خطئي وليس خطؤه”.
اكتساب الطفل لجهازه النفسيّ، يعني تفعيل القلب الحسّيّ، إذ يصبح لدينا قلب يبصر ويسمع ويحسّ، وهو أيضاً تفعيل للذاكرة الحيّة، إذ تحفظ المعلومة موسومة بالعاطفة وتصبح بذلك معلومة معرفيّة، ويكون بذلك القلب والذاكرة الحسين المكوّنان الأساسين للجهاز النفسيّ.
وعليه افترض الباحث مصطلح “خلية نفسيّة” تكون البنية الأساسيّة للمشهد خلال معالجة المدخلات في القلب الحسّيّ وحفظ المعلومة في الذاكرة، ويساهم في تكوين هذه الخليّة ثلاثة عناصر أساسيّة؛ الصوت، الصورة والعاطفة أو “عاطفة الفهم” أو “العاطفة الاجتماعيّة”، فكما في مشاهد الفيديو تتالي الصور لتعطي مشهد الحالة الذهنيّة النهائيّ؛ فالإنسان السويّ يمتلك خليّة كاملة مكوّنة من صوت وصورة وعاطفة؛ أمّا عند الصمّ البكم، فتحوي الخليّة صورة وعاطفة فقط، وعند الكفيف، تحوي صوتاً وعاطفة فقط، أمّا عند أطفال التوحّد فهي مجرّدة من العاطفة؛ وبهذا يمكن أن نفسّر الحالة الّتي تجتمع فيها أعراض التوحّد عند طفل من ذوي الاحتياجات الخاصّة أو طفل من الأطفال المصابين بالمتلازمات الطبّيّة، فعند الطفل السويّ المعلومة تعالج عاطفيّاً قبل أن تحفظ في الذاكرة، بينما عند أطفال التوحّد، تحفظ المعلومة مباشرة كما تحفظ الملفّات على أسطوانات مضغوطة أو أسطوانات خارجيّة، وبذلك فإنّ العمليّة برمّتها هي مجرّد عمليّة كتابة/قراءة.
وبالنظر إلى ما يظهر على الأطفال التوحّديّين، من اكتفاء بالذات، والعزوف عن أيّ علاقة مع الأشخاص، والعلاقة المتينة الّتي تربطهم بالأشياء، وكذا عجزهم الفكريّ، جعل الباحث ينظر إلى أنّ نموّ الجهاز النفسيّ للطفل يمرّ عبر دورة تبدأ بعالم الأشياء، ثمّ عالم الأشخاص، ثمّ أخيراً عالم الأفكار، بحيث نتعرّف في عالم الأشياء على أسماء الأشياء، بينما نتعلّم الربط بينها في عالم الأشخاص، ونبتكر ارتباطات خاصّة بنا في عالم الأفكار، الربط البسيط بين الأسماء يصبح مركّباً فيما بعد ليكون “استراتيجيّة” وهو ما نسمّيه ذكاء، وتختلف من فرد لآخر حسب رصيده المعرفيّ، كما تجيب النظريّة على كثير من الأسئلة المتعلّقة بكيفيّة اكتساب تلك العاطفة، وطرقة تعلّم التوحّديّ واكتسابه للمهارات.
أهمّ خلاصة للكتاب أنّ عمليّة الفهم تتمّ على مستوى القلب وليس الدماغ، وتعتبر العقل إحدى وظائف القلب، وأنّ الإنسان يكتسب جهازه النفسيّ من أمّه، بتتبّع هذا المنطق يكون أوّل طفل ولد في هذا العالم قد اكتسبه من أوّل أمّ، وهو بذلك ليس مدنيّاً بطبعه كما يشاع.
مهلاً؛ هذا المقال؛ مختصر القلوب المقفلة، هو بمجموع بضع صفحات وورد فقط، فيرجى تأجيل أيّ حكم إلى ما بعد قراءة البحث، والاحتفاظ بكلّ الأسئلة علّها تجد إجابة بين سطوره.
اترك تعليقاً