يربط حبل المشيمة الجنين بأمّه وهو في بطنها، ولكن بعد الولادة هناك رابط غير مادّيّ يربط الأمّ برضيعها، رابط الحنان والعاطفة والحبّ، يبدأ من لحظة الميلاد إلى غاية تكون رابطة التعلّق الّتي يكتسب من خلالها جهازه النفسيّ، بشرط أن تكون هذه الرابطة مستمرّة ومتّقدة على الدوام، ولكن يحدث أن تتدخّل عوامل تحول دون استمراريّة هذه العلاقة ممّا يجعل الطفل يحيد عن مسار النموّ النفسيّ السويّ.
تجربة في الصميم قام بها ريني سبيتز، والّتي شرحها بالتفصيل في بحث له بعنوان: “فقدان الأمّ من قبل الرضيع”؛ تمّ إجراء الدراسة في مؤسّسة حضانة تحوي مجموعة من الرضّع الّذين تمّ فصلهم عن أمّهاتهم، التجربة أجريت في ظروف صحّيّة ممتازة، حيث تمّت تربية الأطفال منذ الولادة من قبل أمّهاتهم تحت إشراف ممرّضات مؤهّلات، في المتوسّط، لم يختلف معدّل نموّ هؤلاء الأطفال بشكل كبير عن حاصل نموّ الأطفال الّذين نشأوا في أسرهم، وبعد أن تمّ فصلهم عن أمّهاتهم تمّ تدوين الملاحظات التالية؛ بعد شهر، أظهر الأطفال موقفاً متطلّباً، يتباكون، ويتشبّثون بأيّ شخص يقترب منهم، وبعد انفصال لمدّة شهرين، تتغيّر الصورة حيث يبدون رفضاً لأيّ اتّصال، ينسحبون ويظهرون قلقاً من اقتراب الأشخاص البالغين، ويصبح من المستحيل تهدئة الأطفال المنفصلين لمدّة شهرين، يقول سبيتز بأنّه قد جرّب تهدئتهم بكلّ الوسائل لفترات تصل غالباً إلى ثلاث ساعات وأكثر من الجهد المستمرّ دون نتائج؛ في البداية كما في النهاية، يصرخون بيأس مع كلّ محاولة للاتّصال، وفي الوقت نفسه، يعاني هؤلاء الأطفال من اضطرابات غذائيّة، وغالباً ما يفقدون الوزن ويتوقّف حاصل النموّ، في الشهر الثالث من الانفصال، يقدّم الطفل وضعاً مرضيّاً بالاستلقاء على البطن معظم اليوم، غير مبال بمحيطه ويرفض الردّ على أيّ تنبيه، يزداد فقدان الوزن بشكل متكرّر، ويبدأ هؤلاء الأطفال في المعاناة من الأرق، ويصبحون أكثر عرضة للأمراض المتداخلة، ويظهرون قابليّة متزايدة للإصابة بالعدوى، ميل للحوادث، القروح، الحروق، الكدمات، الحدب، والجروح الصغيرة، إلخ، في الشهر الرابع من الانفصال، تزداد الأمور سوءاً؛ تعابير الوجه تبدو جامدة وتظهر بصرامة إيمائيّة، وبنظرة ثابتة وبعيدة، وكأنّهم واقعون في ذهول والّذي يذكر بالهذيان، أمّا البكاء فيعوّضه النحيب، ويبدأ مستوى النموّ في التراجع إلى ما دون الّذي تمّ الوصول إليه أثناء الانفصال؛ يؤكّد سبيتز بأنّ عمليّات الفصل الّتي تحدث خلال النصف الثاني من العام الأوّل والّتي تتجاوز خمسة أشهر تميل إلى إحداث ضرر غير قابل للإصلاح، ووفقاً لمدّة الانفصال، فإنّه يقدّم ثلاث مراحل تقدّميّة؛ التأخّر، التوقّف ثمّ التراجع.
الاضطرابات الغذائية التي تحدث عنها سبيتز في تقريره والتي ظهرت على أطفاله بداية من الشهر الثاني من الانفصال، أشار إليها ليو كانر في تقريره، ففي حالة دونالد؛ الحليب كان مزيجاً من الرضاعة الطبيعيّة والاصطناعيّة المكمّلة حتّى نهاية شهره الثامن، تغيير الحليب كان متكرّراً بكثرة، الأكل كان دائماً مشكلة ولم تكن لديه شهيّة طبيعيّة، أمّا بول فكان يتقيّأ كثيراً خلال عامه الأوّل، تمّ تغيير التركيبة الغذائيّة كثيراً دون التوصّل إلى النتيجة، توقّف عن التقيّؤ عندما بدأ يتعلّم الأكل الصلب، بربارة؛ تغذّت قليلاً على الثدي وعلى قنّينة الإرضاع في حوالي أسبوع، تمّ تغذيتها بالأنبوب 5 مرّات في اليوم حتّى عمر سنة بعد أن توقّفت نهائيّاً عن أخذ أيّ غذاء في عمر 3 أشهر، بدأت تأكل فيما بعد ولكن كانت هناك دائماً صعوبات حتّى سنّ 18 شهراً، هربرت؛ من ميلاده وحتّى 3 أشهر كان يتقيّأ كلّ ما يتناوله، التقيّؤ انقطع فجأة، وبدأ يتغذّى فيما بعد بشكل طبيعيّ، ما عدا حدوث القلس أحياناً، ألفرد؛ خلال الشهرين الأوّلين، تغيير الحليب سبّب له الكثير من القلق، وأخيرا جون؛ عند ميلاده مكث في المستشفى مرّات عديدة بسبب مشاكل التغذية والأكل، وفي عمر سنتين و4 أشهر المشكّل الّذي أرقّ والديه هو تلك الصعوبة الّتي كانت تواجههما حتّى يجعلاه يأكل، خلال أيّامه الأولى لم يكن يستطيع أخذ ثدي أمّه، وفي مدّة 15 يوماً تمّ إرضاعه بالقنّينة والّتي لم يكن يأخذها جيّداً هي أيضاً.
أمّا الكفّ عن التواصل والذي يكون مصحوبا بغياب إيماءات الوجه، والّذي تمّت الإشارة إليه في تجربة سبيتز في الشهر الرابع من الانفصال، أشير إليه في تقرير ليو كانر بخصوص عدم اتّخاذ الطفل لأيّ موقف استباقيّ عندما تريد الأمّ حمله، فحسب جيزل، طفل عاديّ في عمر 4 أشهر، من المفروض أن يتّخذ موقفاً استباقيّاً بتمديد الوجه، وتحريك الكتفين عندما نرفعه أو عندما نمدّده، خبرة كونيّة تكتسب بالتراكم، من خلال حمل الرضيع من طرف الأمّ أو شخص آخر، حسب التقرير فإنّ أمّهات أغلب المفحوصين أبدَين استغراباً من فشل أطفالهنّ من اتّخاذ موقف استباقيّ قبل حركة الرفع باليدين، كيف أنّ والد أحد الأطفال يتذكّر أن لا شيء تغيّر في وجه ووضعيّة جسد ابنته بربارة لمّا كان والداها يدخلان إلى المنزل بعد عدّة ساعات من الغياب، ثمّ يتوجّهان إلى مهدها من أجل محادثتها والاستعداد لحملها، فحسب ليو كانر، الرضيع العاديّ يتعلّم خلال الشهور الأولى من حياته كيف يضبط وضعيّته مع وضعيّة من يحمله.
تشخيص التوحّد في المهد ذي أهمّيّة كبيرة، إذ يمكن استعادة طفل توحّديّ في عمر سنتين ونصف بسهولة. المزيد من التفاصيل حول الأعراض والوقاية تجدونه في كتاب القلوب المقفلة علبة التوحّد السوداء.
اختبار تشخّصي التوحّد في المهد
روابط:
اترك تعليقاً